الطوباوية رفقا

وُلدت الطوباوية رفقا سنة 1832 في بلدة حملايا، وهي قرية مارونية من جبل لبنان، في قضاء المتن، تعلو عن سطح البحر نحواً من 700 متر. وخلال حوادث سنة 1860 الدامية، نُهِبت هذه البلدة وأُحرقت..على أننا نعرف معرفة اليقين انها ولدت سنة 1832 في بيئة جبليّة، في أحضان عائلة كاثوليكية محافظة من والدين تقييّن: هما مُراد صابر الشبق الريّس ورفقة الجميّل..

من حسن الحظ أيضاً ان الله ألهم رئيستها في دير مار يوسف جربتا، الأم اورسلا ضومط، ان تطلب من الأخت رفقا، قبل وفاتها، ان تطلعها على ما جرى في حياتها بتفصيل ودقّة... "ان اسمي العلماني بطرسيّة، وقد ماتت والدتي وأنا بعمر سبع سنين، وبعد وفاتها تزوّج والدي".

امست الصغيرة بطرسية اذن يتيمة الأم منذ نعومة اظافرها، وحُرمت من حنان الوالدة.. لكنها في بليتها هذه لم تلبث تلجأ إلى أمها السماوية، العذراء مريم، معتبرة اياها أماً لها على الأرض، متعبّدة لها ليل نهار، كما علّمتها أمّها الأرضيّة من قبل ان يتوفاها الله.بلغت بطرسية العاشرة من عمرها، واحسّت بضيق الأيام في لبنان، اذ كانت الأحوال تسير من السيء إلى الأسوأ.. ورأت بطرسية الصبية الحساسة والشفافة النفس، ان والدها بدأ يصبح في ضيق، تكونت عند طوباويتنا القناعة بأن من واجبها ان تكون عونا له ليتمكن من القيام بأود عائلته، ولم تخجل ولم تستنكف من ان تصبح خادمة في دار اسعد البدوي، الرجل اللبناني الشريف، الذي كان يعيش وزوجته هيلانة بروح الإنجيل وبالصدق والاستقامة؛ كانت بلدة بعبدا مسقط رأسه، ولكنّه توجّه، نظراً لظروف لبنان القاسية والصعبة، إلى دمشق – الشام وسكن فيها. ذهبت بطرسيّة إلى الشام برفقة مخدوميها. وقد قالت عنها اسرة البدوي : "انها كانت مثال التقوى والحشمة والأمانة والعفة والعمل الصامت". ولقد أُتيح للصبية بطرسية ان تجني من إقامتها في دمشق نفعاً مزدوجاً: لقد ساعدت والدها بمرتّبها، ومن جهة اخرى عايشت اسرة مشهورة بتقواها وبمعاملتها الإنسانية لخدّامها، تُخيّم خشية الله على كبارها وصغارها. وهكذا اخذت الدعوة الرهبانية تشق طريقها في نفس بطرسية، وتترسّخ فيها شيئاً وفشيئاً، سواء في البيت الوالدي او في بيت السيّد اسعد البدوي... ولقد اشتهرت بطرسية في شبابها بان كانت أجمل صبايا قريتها، فكانت بيضاء البشرة، مستديرة الوجه، متوسطة القامة. وقد حباها الله صوتاً جميلاً للغاية. لقد كانت بسيطة في افعالها وِأحاديثها، لكنها كانت تبدي دوماً ذكاء متوقداً وسعةً في الثقافة وعُمقاً في التفكير. ورغم تقدّمها في السن وتجاعيد وجهها، ظلّت جميلة الوجه، بهيّة المنظر، وقد تم فيها قول الكتاب المقدس: "ان جمال بنت الملك ينبع من الداخل". وجمال الطوباوية رفقة كان ينبع من تقواها ومن فضائلها ومن جمال نفسها! إن اختيار الربّ للإنسان يتحقق بألف طريقة وطريقة.. ما ان بلغت الرابعة عشرة من عمرها حتى استرجعها والدها من بيت مخدوميها في الشام، بُغية ايجاد عريس لها، فيزفها إليه ويطمئن إلى مستقبلها.. مرّت السنون وبطرسيّة ترفض فكرة الزواج. فلنسمعها تقص على رئيستها هذه المرحلة من حياتها: "ولما بلغت السنة الرابعة عشرة من عمري، ارادت امرأة والدي ان تزوجني من شقيقها وخالتي شقيقة أمي أحبت أن تزوجني من ابنها. وبسبب منازعة هاتين المرأتين عليّ، وقع نفور وخصام بينهما. ففي ذات يوم لما كنتُ مالئة الجرّة من العين وعائدة إلى البيت، سمعتُ امرأة والدي وخالتي تتشاجران وتتبادلان الكلام الجارح بسببي، وكلّ منهما تريد تزويجي على هواها. فتأثرت وحزنت لهذا الخصام الحاصل لأجلي، فجلست ناحية وأنا حزينة كئيبة، وطلبت من الله ان يخلصني من هذا المأزق. فخطر للحال ببالي الإنضمام الى سلك الرهبانية. فتوجهت حالاً إلى دير النجاة في بكفيا للراهبات اليسوعيات..

ولما دخلت الكنيسة، شعرت بفرح وسرور باطني، ولما التفت الى صورة السيدة ، سمعت صوتاً صادراً منها يدوي في ضميري قائلاً : "انك تترهبين".على هذا النحو اسمع الله بطرسية صوته، فدخلت الدير وانخرطت في جمعية المريمات التى كان انشأها الخوري يوسف الجميّل هو والآباء اليسوعيوّن سنة 1835.. وهكذا تركت بطرسية كل شيء وتبعت يسوع المسيح.  انما هذا العمل اغضب والدها الذي توجه دون إبطاء الى بكفيا ليسترجعها، لكن دون جدوى. لأن عزمها على ترك العالم كان نهائياً، كما كان نداء الرب لها اقوى من نداء اللحم والدم. دخلت الدير وقضت فيه اولاً سبع سنين بين بكفيا وغزير. وبعد ابرازها النذر الرهباني الأول، بقيت في المعهد الأكليريكي الشرقي. في هذا الدير كما في بكفيا، كانت تخدم وتتعلم. "ثم توجهت سنة 1860 الى دير القمر واقمت فيها مع بعض آباء الرهبانية اليسوعية، وقد حدثت في هذه السنة المعارك والمذابح الدامية المشهورة...

بقيت رفقة طيلة حياتها تتذكر هذه المآسي المروعة، وتدمع عينها كلّ مرة تحدثت عن هذه المذابح البربرية... بعد ان قضت طوباويتنا سنتين في دير القمر أُرسلت الى مدينة جبيل لتؤمن التعليم للفتيات مع اخواتها المريمات اللآئي كنّ في تلك المدينة. مكثت فيها سنة واحدة، ثم أُرسلت الى بلدة معاد، في قضاء جبيل، لتواصل رسالتها التعليمية هناك.. ان جميع من عرفوا رفقة، الراهبة المريمية يشهدون ايضاً انها قامت برسالة التعليم والتربية على اكمل وجه. لقد كانت جمعية المريمات مرسلةً بكل معنى الكلمة، لكن الرب كان يدعوها إلى رسالة اعمق واغزر، الى حياة الرهبانية المحصنة، الى حياة الخلوة به تعالى، والتأمل فيه ضمن جدران الكنيسة والدير!

واخيراً تحققت رغبة الطوباوية رفقة.. انضمت إلى راهبات مار سمعان القرن في بلاد الجبة اللبنانيات المحبوسات، اذ في هذه الرهبانية زيادة تقشف وتمام الإنقطاع عن العالم، وهذا ما كانت تتوق إليه نفس هذه الراهبة التقية الفاضلة". نقرأ في سجل دير مار سمعان القرن ما نصّه: "قد ابتدأت الأخت رفقة التي كان اسمها بطرسية من حملايا، في 12 تموز سنة 1871، وكان عمرها 39 سنة". وتجدر الإشارة الى ان والدة طوباويتنا كان اسمها رفقة وقد توفاها الله وبطرسية لا تزال في السابعة من عمرها؛ وقد أخذت اسم والدتها عند ابرازها النذر الرهباني لتُعلن انها مثل امها قد ماتت نهائياً عن العالم وكرست ذاتها تكريساً تاماً للربّ!

وفي روزنامة الدير نقرأ أيضاً تاريخ ابرازها النذور الرهبانية الإحتفالية... في 25 آب 1872. وهكذا نذرت الأخت رفقة نذورها الرهبانية الإحتفالية: الطاعة والعفة والفقر، وشعرت انها بلغت مرامها وأصبحت عروساً ليسوع الى الأبد!

لم تشك ُرفقة يوماً من مرض ألمَّ بها رغم الأحزان والامتحانات العسيرة التى مرت بها، ورغم المصائب التى احتملتها. لم تكن الأخت رفقة ماسوشية ولم تفتش عن العذاب لتلتذ بالعذاب بل كانت مستعرة بحب فائق، لا بل بحب جنوني، للسيد المسيح. كانت تسعى من خلال الألم ان تتحد به تعالى اتحاداً اوثق. لنصغ اليها تروي هذه القصة لرئيستَها حيث تقول: "وكنت في العالم وفي الرهبانية اليسوعية وفي اولى سني في دير ما سمعان ممتلئة الجسم صحة ونشاطاً ولا اذكر اني مرضت في كل هذه السنين في حياتي. ففي احد الأيام احبت راهبات دير مار سمعان ان يتنزهن في جوار الدير وكان يوم احد الوردية. فأما انا فلم اذهب معهنّ وقبل ان يذهبن تقدمت اليّ كل راهبة وقالت لي صلّي لأجلي يا أُختي هذه سبعة ابيات وهذه خمسة الخ... فدخلت الكنيسة وبدأت الصلاة لمّا رأيت نفسي وان صحتى جيدة واني ما مرضت في حياتي كلها طلبت من ربّي قائلة يا ربّي لماذا انتَ متباعد ومتخلٍ عنّي لا تفتقدني بمرض ألعلك ناسيني. وعند الرقاد شعرت بوجع مؤلم للغاية في رأسي وكان الألم يمتد فوق عيني الى ان انتهيت الى هذه الحال كما تريني عمياء وكسيحة؛ وبما اني انا التي طلبت المرض من ربّي وبارادتي لذلك لا يحق لي ان اتشكى او اتذمر".

هكذا بدأت جلجلة الأخت رفقة، وبدأ اشتراكها في آلام السيد المسيح، حتى اصبحت، فيما بعد، عمياء وكسيحة مدة سنين عديدة.

يُعتبر فَقد البصر من أقصى الآلام النفسيّة التي يمكن ان تنزل بالإنسان. فالعمى يحرم المرء من رؤية من يحب، ويحول دون مشاهدة الجمال المحيط به والتمتع بمرآه. ومع ذلك، شاء السيد المسيح له المجد، ان يمتحن عروسته الأخت رفقة، فجعلها ضحيّة العمى، تضحيةٌ قبلت بها بفرح، واحتملتها بسخاء وبطولة. ان اشتراك طوباويتنا بآلام السيد المسيح وجلجلتها بدأتا بوجع في رأسها وعينيها.

هذه الآلام الفادحة التي بدأت الأخت رفقة تحتملها، أتى على ذكرها شهود عديدون، ولا سيّما أخواتها الراهبات اللواتي عشنَ وايّاها في الدير. نكتفي بسرد ما ورد على لسان رئيستها الأم اورسلا ضومط حيث تقول: "ولما قصدت دير مار سمعان القرن طالبة الترهب فيه كانت هناك الأخت رفقا ولدى وصولي الدير سألت عنها عمتي الأخت تقلا ضومط المعادية فقالت لي: انه  حصل لها وجع في عينيها وتوجّهت الى طرابلس لأجل عرضها على الأطباء وبعد مدة حضرت الى دير القرن ولم تزل عيناها مريضتين فالعين اليمنى كانت محمرة متورمة نافرة من وجهها والعين الأخرى كانت مدعوكة ملتهبة. ابتدأتُ في الدير المذكور وبعد ان اكملت سنتى الإبتداء نذرت النذور الرهبانية وبقيت فيه عشر سنين. في كل هذه المدة كانت الأخت رفقا تعاني من ألم عينيها ولا سيّما من عين اليمين ما لا يطاق احتماله ولم تكن تحتمل ان ترى النور ابداً لأنه كان يزيد في ألم عينيها فلذلك كانت تقيم في غرفة مغلقة الباب والنافذة وما كانت تتذمر او تتمرمر على الاطلاق بل كانت صابرة شاكرة الله متلفظة بإسمه الكريم في كل حين مردّدة هذه العبارات في ابان اشتداد الألم عليها "لمجد الله – مع آلام المسيح – مع اكليل الشوك الذي برأسك يا سيدي"...

وبالرغم من اوجاعها المرّة، ما طلبت الأخت رفقة يوماً طبيباً او دواء. كانت رئيستها توجهها الى الأطباء، كما كانت ترسل وتجلب لها الأدوية. وغالباً ما كانت طوباويتنا تقول لها: "لا تتعبي، الله وحده هو طبيبي"... وقد افادت الأخت تقلا من مراح الزيّات بما يلي: "كانت الأخت رفقة عمياء تماماً. عين مقلوعة وعين عمياء. وفي عماها تعيش معنا عيشة مشتركة تماماً في كل الأمور، حتى كانت تصلّي معنا على الخورس عن ظهر بالها... وما كانت تطلب لا اطباء ولا ادوية... وما كانت تتذمّر من حالتها، بل كانت بشوشة مسرورة في أوجاعها. عندما يشتد المها وتسيل دموعها من شدّة الألم، تقول: "مع آلام يسوع"، "مع آلام الحربة"، "مع اكليل الشوك"؛ وتعد آلام المسيح كلّها. وما سمعهتها ولا مرّة طلبت الموت لنفسها؛ ودائماً تتشكر من الراهبات حتى من التي تسقيها شربة ماء قائلة: "الله يآجركم، الله يوفقكم، كتّر خيركم"...

مرّت الأيام، وبدأت صحة الأخت رفقة تسوء في دير مار سمعان، وراح صليبها يزداد ثقلاً يوماً بعد يوم. ولم يعُد مناخ دير مار سمعان القرن يوافقها، ولا سيما في فصل الشتاء، لأنه يعلو عن سطح البحر نحواً من 1200 متر، وهو معرّض للرياح من الجهات الأربع، وتبلغ سماكة الثلج فيه احياناً نحواً من متر.

عند دنو فصل الشتاء، كانت الأخت رفقة، كما اخبرتنا اخواتها الراهبات، تشعر بآلام قاسية واوجاع مُرّة بسبب البرد القارس الذي يجتاح منطقة دير مار سمعان.. كانت رئيستها تشفق عليها وترسلها الى المناطق الساحليّة لتقضي فصل الشتاء. وقد حلّت مرّة الأخت رفقة ضيفة على راهبات المحبّة في طرابلس، كما قضت مرّة أخرى فصل الشتاء في أنطش الرهبانية اللبنانية المارونية في مدينة طرابلس، وهلّم جرّا... ظلّت الأخت رفقا في هذا الوضع إلى ان تقرر انشاء دير مار يوسف في بلدة جربتا، في قضاء البترون...

وتقول الأخت اورسلا ضومط في افادتها انه "لما اكتمل الدير، امر الرؤساء المذكورون بنقلي مع ست راهبات، من جملتهنّ رفقة التي طلبتُ انا خصيصاً ان تكون معنا لتعلّقنا بها تعلّق البنات بأمهن، ولما كنّا نرجوه من النجاح لديرنا بصلواتها ومن مثلها الصالح لتقدم الراهبات في الكمال".

"رجل أوجاع ومتمرّس بالعاهات" (اشعيا 53، 3) كان السيد المسيح له المجد؛ ورجال اوجاع يكونون تلاميذه الحقيقيون الذين تركوا كل شيء وتبعون، ومنهم الطوباوية رفقة. فلم تمضِ فترة وجيزة على انتقالها الى دير مار يوسف جربتا، حتى فقدت بصرها بالكليّة، وامسى كلّ ما فيها، "من الرأس حتى اخمض القدمين" ألماً وأوجاعاً مبرّحة، حتى اصبحت مشلولة مقعدة لا تقوى على الحركة. لنستمع الى رئيستها الأم اورسلا ضومط تروي لنا بوضوح وإسهاب ما جرى للأخت رفقة: " في ذات يوم قالب لي الأخت رفقا اني اشعر بوجع مؤلم في جنبي وكأن رؤوس حراب تغرز فيها وبوجع في أصابع رجليّ كأنها تقطيع ثم أخد جسمها من جراء هذا الألم يضعف ويهزل رويداً رويداً إلا ان لون وجهها بقي كما كان مشرقاً وضاحاً وما عادت استطاعت الوقوف على رجليها على الإطلاق فلازمت الفرش وتفكك عظم (زر وركها) جنبها اليمين وزاغ عن مكانه وارتد الى الوراء واختفى في جسمها وترك في محله الطبيعي خفضة (جورة) صغيرة لا أثر للجرح فيها وامست رجلها اليمنى ممدودة على طولها لا تستطيع تحريكها او طيها؛ وتفكك عظم ركبة رجلها هذا ايضاً... كان عظم كتفها اليمنى ايضاً ثاقباً الجلد ونافراً إلى الخارج بقدر ثلاثة سنتمترات وماساً عنقها وكانت خرزات ظهرها معدودة ومنظورة خرزة فخرزة. وامّا جنبها الشمالي فقد زاغ أيضاًَ عظمه (زر الورك) عن موضعه الطبيعي وثقب الجلد وبرز ظاهراً وكانت رجلها اليسرى ايضاً معكوفة مطوية إلى جهة جنبها هذا بعكس رجلها اليمنى وكان عظم كتفها اليسرى ايضاً زائغاً عن مكانه ولم يبقَ عضو صحيح في جسمها غير مخلعي يديها التي كانت تحيك بهما جرابات من صوف شاكرة الله تعالى على ابقائه يديها بقدرته العجيبة سالمتين لتشتغل بهما هرباً من البطالة. وقد فتحت فوهة عميقة تحت رفش كتفها اليسرى وقد ظلّت سبع سنين نائمة على جنبها اليمين فقط لا تمس كتفها الفراش مسندة رأسها إلى الوسادة لأن عظم كتفها هذه كان شاكاً في عنقها كما مرَّ وهي لا تستطيع اقلّ حراك كأنها قطعة من حجر. وبالجملة كانت اعضاء جسمها كلها مفككة مخلّعة (ما عدا يديها) وهي صابرة على اوجاعها الفادحة شاكرة الله تعالى في بلاياها مستسلمة بكليتها لمشيئته القدوسة. وكنا في كل مرّة نبدل لها فراشها بغيره نقيمها عن سريرها بكل تحفّظ وتأني بملاءة (شرشف) فراشها تحملها في اطرافها اربع راهبات ولا يلقينها على الحضيض خوفاً من أن تتضعضع او تتبعثر اعضاء جسمها هنا وهناك. واذا مسّت رجلها الأخرى التصقت ببعضها اي التصاق وعندما نفصلها ينسلخ من احداهما الجلد. وقد أمسى جسمها كله منشفاً يابساً كالعود وخفيفاً وجلده رقيقاً وجملة القول كانت هيكلاً معرّى من اللحم".

هكذا اصبحت رفقا مقعدة.

وقد افادت جميع الراهبات اللاتي كنّ يعايشنها ويخدمنها "أن وجعها لا يوصف، وقد كنّ مندهشات من انها لا تزال حيّة. وبالرغم من كل ذلك، لم تتذمرّ قط، لا بل كانت أسعد منهنّ". ومع ذلك، سبحانه تعالى، لقد عاشت اثنتين وثمانين سنة!

ان جلجلة الأخت رفقة كانت قاسية وطويلة. "ايوب ذاته لم يتألم على قدر ما تألمت"، ما انفكت اخواتها الراهبات تردّدن هذه المقولة. وكان الدمّ يسيل ايضاً من انفها على اثر اوجاع شديدة في رأسها. "ألم بها ضعف عظيم"...

موتها   :

حياتنا على الأرض هي استعداد لحياة خالدة... وهنا يصبح الموت بالحري هادئاً جدّاًَ وعذباً للغاية. وهذا ما حدث للطوباوية رفقة، هذه الراهبة اللبنانية المارونية التي ماتت في 23 آذار 1914، بعد حياة ملأى بالأعمال الصالحة، وبعد اوجاع مبرّحة عانت منها واحتملتها مدّة تسع وعشرين سنة بصبر وفرح وحبّاً بالمسيح ولأجل المسيح! لنستمع إلى رئيستها الأم اروسلا ضومط تروي لنا ساعات الأخت رفقة الأخيرة قبل أن اسلمت روحها الطاهرة إلى الله: "ما زالت الأخت رفقة متوجعة متألمة من عماها وتكرسحها الماً لا يُطاق احتماله وهي صابرة على بليتها شاكرة الله تعالى في محنتها حتى ساعة موتها. واذا سألها احد عن حالها كانت تقول له اشكر الله مع آلام المسيح. وقبل وفاتها بثلاثة ايام صعب عليها النطق فشخصت بعقلها وفكرها الى السماء وكانت وسكوتها وجمودها الهادئ المطمئن اشبه بإنسان نائم نوما مريحا غائصا في احلام لذيذة لا يعي الى شيء او بمن يستمع حديثاً مطربا مفرحا لا يحب ان يقطع عليه احد مجرى سروره فيه. فدخلت عليها وسألتها كيف حالك اليوم هل انت خائفة من الموت تشجعي لا تخافي. فتبسمت وقالت لا لست خائفة منه بل اني منتظرته من زمان؛ الله يحييني بالموت. لمّا رأيت ان احوالها تغيرت وقد ضعف نبضها وخفت صوتها سألتها هل تريدين ان يمسحك المرشد بمسحة المرضى فأجابت بكل ارتياح ورضى نعم. فاستدعيت حالا وكيل ديرنا القس دانيال الجبيلي فمسحها وهي متنبهة كل الانتباه وقلت لها اتريدين ان تتناولي القربان المقدس وكان قد قرب العصر، فاجابت اليوم تناولت وكيف اقبل القربان مرة ثانية وانا غير صائمة فغدا اتناول، فقلت لها اذا ماذا تطلبين قالت ان يقرأ لي في كتاب امي مريم وكتاب الاستعداد للموت. فأخذت الكتابين وبدأت اقرأ لها وهي صاغية متنبهة إلى كل جملة. وبعد غروب الشمس وحلول العتمة قالت لي: احب ان اودع اخواتي الراهبات واسمع صوتهن قبل موتي. فجاءت الراهبات واشرت اليهن ان يودعنها فكانت تتقدم اليها كل راهبة وتقبّل يدها قائلة لها: اغفري لي يا اختي، ترضي علي، صلي لاجلي، تقول كل واحدة منهن وتشهق بالبكاء، وكانت تقول هي لكل راهبة اغفري يا اختي وسامحيني واذكريني بصلاتك. ثم ودعتها في آخر جميعهن ساكبة من عيني دموعاً غزيرة وقد اصرّت على تقبيل يدي. ثم حضر مرشد الدير فقالت له اذا كنت تريد ان تقرأ في كتاب المنازعين وبعد نهاية القراءة قالت له بما انك في الحقل يا ابت وتعبان فأرجوك ان تذهب وتنام وبقيت الراهبات. عندها في تلك الليلة وقد طلبت منا ان نتلو لها بصوت عال طلبة مار يوسف البتول وثلث المسبحة الوردية. ولمّأ بزغ الفجر طلبت ان تتناول القربان المقدس قائلة دعوني آخذ زوادتي معي فتناولته فقلت لها وانا قابضة على يدها عندما لا تستطعين يا اختي الكلام شدي على يدي علامة الندامة ليمنحك المرشد الحلة الأخيرة فأجابت نعم. ولما بدأت بالنزاع اخذت تقول يا يسوع ومريم ومار يوسف اني اهبكم قلبي ونفسي تسلّموا روحي حتى خانها النطق... وبعد ان مضى على منحها الحلة والغفران نحو اربع دقائق طارت روحها الطاهرة الى خالقها لتنال جزاء اتعابها وجهادها في الرهبانية وصومها وسهرها وصلاتها واحتمالها الآلم سنين طويلة ومن رآها ظنها نائمة نوماً هادئا مطمئنا وكأن طيفة من النور تتلألأ على وجهها الابتسامة وكانت الابتسامة على ثغرها وقد وضعنا على عينيها نظارة اخفاء لجورتيهما. وكانت وفاتها في اليوم الثالث والعشرين من شهر آذار سنة الف وتسعماية واربع عشرة 23 آذار 1914. في دير مار يوسف هذا الكائن في ضهر جربتا.

هكذا يعيش القديسون، وهكذا يموت الذين اتحدوا بالمسيح مدى حياتهم كلّها على الأرض، ولقد تم فيهم ما جاء في الليتورجيا: "طوبى للذين يموتون بالرب"!.

اما بعد موتها فقد تكاثرت الخوارق والنعم. وما ان وُضعت في المدفن القريب من الدير، حتى لُوحظ على قبرها الحدث ذاته الذي جرى على قبر القديس شربل في غداة دفنته في 25 كانون الأول سنة 1898، اي نور ساطع كان يخرج من قبر الطوباوية رفقة ثم يختفي. لقد تكرر هذا الحدث، واشخاص كثيرون من سكان القرى المجاورة لدير مار يوسف جربتا، رأوا هذا النور العجيب..

الطوباوية رفقة لم تكتب شيئاً ولم تترك لنا حتى ولا رسالة وجيزة، بالرغم من ثقافتها الواسعة وذكائها الحاد، إلاّ انها كتبت فصلاً في كتاب الألم الخلاق، بنبوع البهجة والحبور.