ابينا في القديسين يوحنا فم الذهب

أبصر قدّيسنا النور في مدينة أنطاكية العظمى في تاريخ لا نعرفه بالتحديد، يتراوح بين العامين 344 و354 للميلاد ولعله 347. كان أبواه من عليّة القوم. والده سكوندوس كان قائداً للجيش الشرقي في الإمبراطورية وكان وثنياً، وقد رقد بعد ولادة يوحنا بقليل. والدته أنتوزا هي التي حضنته وربّته للمسيح. كانت، في تقدير المؤرخين، زينة الأمهات المسيحيات الأنطاكيات، وفي مصاف الكبيرات كنونا أم القدّيس غريغوريوس اللاهوتي ومونيكا أم أوغسطينوس المغبوط. حتى الفيلسوف الوثني ليبانيوس اعترف بقدرها وعظمة الأمهات المسيحيات مثيلاتها. ترملت وهي في سن العشرين، وأبت أن تتزوج من جديد مؤثرة الانصراف إلى حياة الفضيلة ومكتفية بتربية ابنها. وإلى جانب يوحنا يبدو أنه كانت لأنتوزا ابنة تكبر الصبي ببضع سنوات. تتلمذ يوحنا في أنطاكية، وهو في الرابعة عشرة من عمره، للفيلسوف الأفلاطوني الجديد ليبانيوس، إلى سن الثامنة عشرة. أخذ عنه فنون الخطابة والآداب الإغريقية. ويبدو أن معلمه كان معجباً به لدرجة أنه قبل وفاته بقليل، سئل بمن يوصي معلماً بعد موته فأجاب: "بيوحنا لو لم يكن المسيحيون قد سرقوه مني!".

معموديته ورهبنته: اقتبل يوحنا المعمودية في سن متقدمة قد تكون الثامنة عشرة أو الثالثة والعشرين. ولم يكن سبب ذلك والدته ولا لأنه كان غير مؤمن بل لأن النظرة إلى المعمودية اختلفت يومها عما هي عندنا. والحق أن ممارسة المعمودية في سن الرشد كانت أكثر شيوعاً من معمودية الأطفال. السبب كان التوقير الشديد الذي أحاط به المؤمنون السر من حيث هو سر إعادة الولادة. وثمّ اعتقاد شعبي شاع يومها أن المعمودية المبكرة يمكن أن تكون سبباً في خسران صاحبها النعمة في الكبر. وهذا ما يفسّر أن كثيرين كانوا يرجئون معموديتهم إلى وقت متأخر من حياتهم، وبعضهم، كقسطنطين الكبير، لم يعتمد إلا على فراش الموت. على أن يوحنا نفسه انتقد، فيما بعد، عادة المعمودية المتأخرة هذه وحث على معمودية الأطفال. ويفيد بالاديوس، صديق الذهبي الفم، عن يوحنا أنه بعد معموديته "لم يعرف القسم ولا افترى على أحد ولا تكلم زوراً ولا لعن ولا حتى سمح لنفسه بالمزاح". معمّده كان ملاتيوس الأنطاكي القدّيس، أسقف أنطاكية العظمى، الذي رأى فيه نجماً ساطعاً للكنيسة فاتخذه قندلفتاً ثم قارئاً بضع سنوات. أما يوحنا فكانت رغبة قلبه أن يترهّب، لاسيما بعدما التقى ديودوروس الراهب وتأثّر به. ولكن، حالت أنتوزا من ناحيتها والقدّيس ملاتيوس من ناحيته دون تحقيق يوحنا رغبة قلبه، ولو مؤقتاً، فأقام راهباً في بيته إلى أن توفيت والدته. أما العلم الدنيوي الذي كان قد تعاطاه بلهفة ونهم كما لو كان أرقى ما تتشوّف إليه النفس فقد تخلّى عنه وتحوّل ضده متبعاً قول الرسول بولس القائل: "ما كان لي من ربح اعتبرته خسارة من أجل المسيح.. وأني أعتبر كل شيء نفاية لكي أربح المسيح ويكون لي فيه مقام" (فيليبي 8:3-9). نظرة القدّيس يوحنا إلى الإقبال بشغف على مثل هذا العلم أضحت أنه كالإقبال على الفجور حتى أنه تحدث عما أسماه "فجور التعلم". وحوّل يوحنا بيته إلى دير. انقطع عن العالم والعالميات وصار ناسكاً صارماً، لا يأكل إلا قليلاً. يستغرق في الأسهار والصلوات وحفظ الصمت. كان حريصاً على قمع شهوة البطن والغضب. ويبدو أنه اقتنى الصلاة النقيّة وهدوء الذهن ووداعة لا تتزعزع. معارفه اعتبروه انطوائياً كئيباً. فقط اثنان من التلامذة أقرانه شاركاه نزعته النسكية: مكسيموس، أسقف سلفكيا العتيد وثيودوروس مصيصة، بالإضافة إلى باسيليوس الذي صار، فيما بعد أسقف رفانية القريبة من أنطاكية. وهذا كان صنو نفسه.

أربع سنوات راهباً: وبعدما توفيت أنتوزا، والدة يوحنا، انصرف إلى الجبال، جنوبي أنطاكية، حيث أمضى ست سنوات، راهباً ثم ناسكاً، في عهدة شيخ اسمه هزيخيوس. وقد وصف هو طريقة عيش الرهبان هناك، فقال أنهم يسكنون في قلالي أو أكواخ ويسلكون بحسب قانون مشترك، ولهم شيخهم، وأن ثيابهم خشنة من شعر الإبل أو الماعز يلبسونها فوق أقمصتهم الكتانية، وأنهم ينهضون صباحاً قبل الفجر. ويبدأون يومهم بالتسابيح والصلوات المشتركة، ثم يتفرقون كل إلى عمله، بعضهم ليقرأ وبعضهم ليكتب وبعضهم ليعمل عملاً يدوياً يساعد به الفقراء أربع ساعات في اليوم كانت للصلاة والترتيل. كان طعامهم الخبز والماء إلا في حالات المرض وكانوا ينامون على بسط من القش. كل شيء كان بينهم مشتركاً، وعبارات كهذه: "هذه لي وهذا لك" لم يكن لها موضع في حياتهم ومتى رقد أحدهم في الرب فلا نحيب عليه بل شكر لله. كان الأخوة يحملونه إلى القبر وهم يرتلون ويسبحون لأنه لم يمت بل كمّل طريقه وأهّل لمعاينة وجه السيد. كيف لا والحياة بالنسبة إليهم هي المسيح والموت ربح؟! ومرت أربع سنوات على يوحنا في الحياة الرهبانية المشتركة توحّد بعدها في احدى المغاور. هناك تسنّى له أن يخوض غمار حرب ضروس لروحنة جسده. الشهادات التاريخية تفيد انه لم يكن يستلقي أبداَ.وكان متى شاء أن يرياح قليلاَ يعلّق نفسه من الكتفين بحبل ثبّته في سقف المغارة. وقته كان يقضيه في الصلاة و التأمل في الكتاب المقدس.وقد كان مفرطاَ في نسكه لدرجة أنه بثأثير البرد والأصوام والأسهار أصيب في كليتيه ومعدته واضطر إلى مغادرة مغارته و النزول إلى انطاكية للعلاج, على أمل العودة إلى نسكه بعد حين.لكنه بتدبير من الله بقي في المدينة, لأن العطل في صحته كان دائماَ.

شماساً فكاهناً واعظاً: سامه البطريرك ملاتيوس شماساً في العام 380 أو 381 للميلاد. فتسنى له على امتداد خمس سنوات قضاها في الشموسية أن يطلع بصورة عملية تفصيلية على حاجات الناس، كما خاض في خدمة الفقراء والمرضى. وفي العام 386 م وضع فلافيانوس، أسقف أنطاكية الجديد، يده على يوحنا وجعله كاهناً. يومها ألقى الذهبي الفم أولى مواعظه في حضور الأسقف. وكان هذا حدثاً فريداً لأنه لم يكن شائعاً في الكنيسة أن يتعاطى الكهنة الوعظ، فالواعظ كان الأسقف. وتجلى يوحنا، تجلّى كواعظ، كأهم وأبلغ وأخصب واعظ عرفته الكنيسة الجامعة المقدّسة على مدى الأيام. وفي أنطاكية، بصورة خاصة، أغنى القدّيس يوحنا المسكونة بمواعظه على امتداد اثني عشر عاماً.

في أواخر العام 397 للميلاد توفي القدّيس نكتاريوس (11 تشرين الأول) رئيس أساقفة القسطنطينية مخلفاً وراءه كرسياً يشتهي الكثيرون ملأه. أول هؤلاء كان رئيس أساقفة الاسكندرية، ثيوفيلوس، الذي طالما كان في صراع خفي وأسقف المدينة المتملكة. هذا سارع إلى التحرك في كل اتجاه علّه ينجح في تنصيب أحد أعوانه، ايسيدوروس، فيتمكن من خلاله من وضع اليد على الكرسي القسطنطيني. ولكن حسابات اوتروبيوس الخصي، رئيس الوزراء القوي، كانت غير ذلك فأقنع الإمبراطور أركاديوس بإصدار مرسوم يقضي بتعيين يوحنا، كاهن أنطاكية، رئيس أساقفة على القسطنطينية. طبعاً، صيت يوحنا قبل ذلك كان قد انتشر في كل أرجاء الإمبراطورية. ولكن، كانت هناك مشكلة صعبة: كيف يؤتى بيوحنا من أنطاكية؟ الأنطاكيون لن يرضوا بأن ينتزع منهم واعظهم الأول، وهو نفسه، يوحنا، راهب راهب، لا يحب السلطة فكيف يقنعونه بقبول المنصب الأول في الكنيسة في الشرق؟ لا بد من الحيلة! فبعث أوتربيوس برسالة إلى أستاريوس، حاكم سورية، أمره فيها باستدراج يوحنا سراً إلى خارج المدينة ثم نقله بمواكبة مشدّدة إلى القسطنطينية. وهكذا كان. وارتسم سؤال: من يسم يوحنا؟ وأجاب أوتربيوس: ثيوفيلوس! فأحضر إليه فامتنع. فأخذ رئيس الوزراء ورقة وخط عليها بضعة أسطر ودفعها إلى أسقف الإسكندرية قائلاً: أما أن تسم يوحنا أو توجّه إليك الاتهامات المذكورة في هذه الورقة وتحال إلى المحاكمة. فشحب وجه ثيوفيلوس وسلّم بالأمر الواقع. وفي السادس والعشرين من شهر شباط من العام 398 للميلاد جلس يوحنا على عرش الكنيسة في القسطنطينية. ذاك الذي كان يكره أن يكون في موقع السلطة بات الآن في سدة السلطة الأولى. ذاك الذي كان يكره الترف وجد نفسه محاطاً بمظاهر الفخامة وسكن في قصر بالقرب من القصر الملكي. ذاك الذي كان نصير الفقراء وراعيهم وجد نفسه محاطاً بالأغنياء وعلية القوم. فماذا كان يمكن أن تكون النتيجة؟ صراع مرير وسيرة استشهاد. هذا ما كابده القدّيس يوحنا الذهبي الفم خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته كرئيس لأساقفة القسطنطينية.

الطروبارية ( اللحن الثامن)

لقد سطعت نعمة فمك كمصباح.فأنرت المسكونة. ووضعت في العالم كنوز الزهد في حب المال. وأظهرت لنا سموّ الاتضاع. فيا أيها الأب المؤدب بأقوالك. يوحنا الذهبي الفمّ. إشفع الى الكلمة المسيح الاله . في خلاص نفوسنا